حدّث أبو العيناء قال:‏ ‏ كان سبب خروجي من البصرة وانتقالي عنها أنني مررت يومـاً بسوق النخـّاسين، فرأيتُ غلامـاً يـُنادَى عليه وقد بلغ ثلاثين ديناراً، فاشتريته.‏ ‏ وكنت أبني داراً، فدفعتُ إليه عشرين ديناراً على أن ينفقها على الصناع، فجاءني بعد أيام يسيرة فقال:‏ ‏ قد نفدت النفقة.‏ ‏ فقلت: هاتِ حسابك!‏ ‏ فرفع حسابـاً بعشرة دنانير. قلت: أين الباقي؟‏ ‏ قال: قد اشتريت به لنفسي ثوبـاً.‏ ‏ قلت: من أمرك بهذا؟‏ ‏ قال: لا تعجل يا مولاي، فإن أهل المروءة لا يعيبون على غلمانهم إذا فعلوا فعلاً يعود بالزَّين على مواليهم!‏ ‏ فقلت في نفسي: أنا اشتريت الأصمعيّ ولـَمْ أَعلم!‏ ‏ وكانت هناك امرأة أردت أن أتزوجها سرّا من ابنة عمي. فقلت له يومـاً:‏ ‏ أفيك خير؟‏ ‏ قال: إي لعمري.‏ ‏ فأطلعته على الخبر. فقال: أنا نـِعم العـَون لك.‏ ‏ فتزوجتُ المرأة ودفعتُ إليه ديناراً، وقلت له:‏ ‏ اشترِ لنا به بعض السمك الهازبي.‏ ‏ فمضى ورجع وقد اشترى سمكـاً من صنف آخر. فغاظني ذلك وقلت:‏ ‏ ألم آمرك أن تشتري من السمك الهازبي؟‏ ‏ قال: بلى، ولكن الطبيب أبقراط كتب يقول إن الهازبي يولـِّد السوداء، وهذا سمك أقل غائلة!‏ ‏ فقلت: يا ابن الفاعلة! أنا لم أعلم أني اشتريت جالينوس!‏ ‏ وقمتُ عليه فضربته عشر مقارع. فلما فرغتُ من ضربه أخذني وأخذ المقرعة وضربني سبع مقارع، وقال:‏ ‏ يا مولاي، الأدب ثلاث، والسـَّبـْع فضل، وذلك قصاص، فضربتك هذه السـَّبع خوفـاً من القصاص يوم القيامة!‏ ‏ فغاظني هذا، فرميته فشججته، فمضى من وقته إلى ابنة عمي، فقال لها: يا مولاتي، إن الدّين النصيحة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: مـَنْ غـَشـَّنا فليس منا. وأنا أُعـْلمك أن مولاي قد تزوج فاستكتمني، فلما قلت له لا بدّ من تعريف مولاتي الخبر ضربني وشجـّني.‏ ‏ فمنعتني بنت عمي من دخول الدار، وحالت بيني وبين ما فيها، فلم أر الأمر يصلح إلا بأن طلقت المرأة التي تزوجتها.‏ ‏ وقلت في نفسي: أعتقه وأستريح، فلعله يمضي عني.‏ ‏ فلما أعتقته لزمني وقال:‏ ‏ الآن وجب حقـُّك عليّ.‏ ‏ ثم إنه أراد الحج، فجهـّزته وزوّدته وخرج. فغاب عني عشرين يومـاً ورجع. فقلت له:‏ ‏ لـِمَ رجعت؟‏ ‏ فقال: فكرت وأنا في الطريق فإذا الله تعالى يقول: (ولله على الناس حـِجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً)، وكنتُ غير مستطيع، وفكرت فإذا حقك أوجب، فرجعت!‏ ‏ ثم إنه أراد الغزو، فجهـّزته، فلما غاب عني بعتُ كل ما أملك بالبصرة من عقار وغيره، وخرجت عنها خوفـاً من أن يرجع! ‏

من كتاب "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" لابن الجوزي